فصل: (سورة مريم: آية 62).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} قال ابن عباس: منكرًا، وقال قتادة ومجاهد: عظيمًا، وقال الضحاك: فظيعًا وقال مقاتل: معناه لقد قلتم قولًا عظيمًا، نظيره قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40] وإلادّ في كلام العرب أعظم الدواهي، قال رؤبة:
نطح شىّ أد رؤوس الأداد

وفيه ثلاث لغات: إدّ بالكسر وهي قراءة العامة، وأد بالفتح وهي قراءة السلمي، وآد مثل ماد وهي لغة بعض العرب {تَكَادُ السماوات} قرأ نافع والكسائي بالياء لتقديم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السماوات {يَتَفَطَّرْنَ} يتشقّقن منه وقرأ أبو عمرو ينفطرن بالنون من الانفطار وهو اختيار أبي عبد اللَّه لقوله عز وجل {إِذَا السماء انفطرت} [الإنفطار: 1] وقوله: {السماء مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] الباقون بالتاء من التفطّر {وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا} قال ابن عباس: وقرأ مقاتل: وقطعًا وقال عطاء: هدمًا، أبو عبيد: سقوطًا {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا} يعني لأن دعوا، ومن قرأ جعلوا وقالوا للرحمن ولدًا، قال ابن عباس وأُبي بن كعب: فزعت السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاّ الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم وقالوا لله عزّ وجلّ ولد، ثم نفى سبحانه عن نفسه الولد فقال: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} يعني أنه لا يفعل ذلك ولا يحتاج إليه ولا يوصف به {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْدًا} لا ولدًا {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أنفاسهم وأيامهم فلا يخفى عليه شيء {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} جائيه {يَوْمَ القيامة فَرْدا} وحيدًا فريدًا بعمله ليس معه شيء من الدنيا.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، حدَّثنا محمد بن جعفر بن يزيد، حدَّثنا أحمد بن عبيد المؤدب، حدَّثنا عبد الرزاق، وحدَّثنا عبد الله، نبّأ محمد بن الحسن، نبّأ أحمد بن يوسف السلمي، نبّأ عبد الرزاق، حدَّثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدَّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ: كذبني عبدي وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياّي فأن يقول: لن يعيدنا كما بَدأنا، وأمّا شتمه إياي فأن يقول: اتخذ الله ولدًا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أُولد ولم يكن لي كفؤًا أحد».
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} أي حبًّا يحبّهم ويحبّبهم إلى عباده المؤمنين من أهل السماوات والأرضين.
أخبرنا عبد الخالق بن علىّ بن عبد الخالق أبو القاسم العاصي أنبأ أبو علي محمد بن أحمد بن حمزه عن الحسن الصوّاف ببغداد، قال أبو جعفر الحسن بن علي الفارسي، عن إسحاق بن بشر الكوفي، عن خالد بن يزيد عن يزيد الزيات، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء عن عازب قال: «قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: يا علي قل: اللهم اجعل لي عندك عهدًا واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية».
وأخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ عبدوس بن الحسين، نبّأ أبو حاتم بن أبي أويس، حدَّثني مالك بن أنس عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: أنّه قال: «إذا أحبّ الله العبد قال لجبرئيل: يا جبرئيل قد أحببت فلانًا فأحّبه، فيحبّه جبرائيل ثمَّ ينادي في أهل السماء: إنّ الله عزّ وجلّ قد أحب فلانًا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء ثم يضع له المحبّة في الأرض وإذا أبغض العبد، قال مالك: لا أحسبه إلاّ قال في البغض مثل ذلك».
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن يعقوب عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة في قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} قال: إي والله ودّ في قلوب أهل الإيمان، وان هرم بن حيّان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله عزّ وجلّ بقلوب أهل الإيمان إليه حتّى يورثه مودّتهم ورحمتهم.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} سهّلناه يعني القرآن {بِلِسَانِكَ} يا محمد {لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين} يعني المؤمنين {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} قال ابن عباس: شدادًا في الخصومة وقال الضحاك: جدلًا بالباطل، وقال مقاتل: خصمًا، وقال الحسن: صُمًّا، وقال الربيع: صمّ آذان القلوب، وهو جمع ألدّ يقال: رجل ألدّ إذا كان من عادته مخاصمة الناس.
وقال مجاهد: الألدّ الظالم الذي لا يستقيم، وقال أبو عبيد: الألدّ الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل، قال اللّه تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} [البقرة: 204].
أخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ أحمد بن محمد بن الحسين بن السوقي، نبّأ أبو الازهر نبّأ أبو أُسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدّ الخصم».
ثمّ خوّف أهل مكة فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ} هل ترى، وقيل: تجد منهم من أحد {أو تسمع لهم ركزًا} وهو الصوت الخفيّ، قال ذو الرمّة:
وقد توجّس ركزًا من سنابكها ** إذ كان صاحب أرض أو به الموم

قال أبو عبيدة: الركز: الصوت والحركة الذي لا يفهمه كركز الكتيبة، وأنشد بيت لبيد:
وتوجّست ركز الأنيس فراعها ** عن ظهر غيب والأنيس سقامها

اهـ.

.قال الزمخشري:

. [سورة مريم: آية 59].

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}.
خلفه: إذا عقبه، ثم قيل في عقب الخير (خلف) بالفتح، وفي عقب السوء: خلف، بالسكون، كما قالوا (وعد) في ضمان الخير، و(وعيد) في ضمان الشر. عن ابن عباس رضى اللّه عنه: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلوا نكاح الأخت من الأب.
وعن إبراهيم ومجاهد رضى اللّه عنهما: أضاعوها بالتأخير. وينصر الأول قوله: {إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ} يعنى الكفار. وعن على رضى اللّه عنه في قوله: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ} من بنى الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور. وعن قتادة رضى اللّه عنه: هو في هذه الأمة. وقرأ ابن مسعود والحسن والضحاك رضى اللّه عنهم: الصلوات، بالجمع. كل شر عند العرب: غىّ، وكل خير: رشاد. قال المرقش:
فمن يلق خيرا تحمد النّاس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغى لائما

وعن الزجاج: جزاء غىّ، كقوله تعالى: {يَلْقَ أَثامًا} أى مجازاة أثام. أو غيا عن طريق الجنة.
وقيل (غىّ) واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها. وقرأ الأخفش {يُلْقُونَ}.

. [سورة مريم: آية 60].

{إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)}.
قرئ: {يدخلون}، ويدخلون: أى لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه، بل يضاعف لهم، بيانا لأن تقدّم الكفر لا يضرهم إذا تابوا من ذلك، من قولك: ما ظلمك أن تفعل كذا، بمعنى: ما منعك. أو لا يظلمون البتة، أى شيئا من الظلم.

. [سورة مريم: آية 61].

{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)}.
لما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت مها، كقولك: أبصرت دارك القاعة والعلالي. و(عدن) معرفة علم، بمعنى العدن وهو الإقامة، كما جعلوا. فينة، وسحر، وأمس- فيمن لم يصرفه- أعلاما لمعانى: الفينة، والسحر، والأمس، فجرى مجرى العدن لذلك. أو هو علم لأرض الجنة، لكونها مكان إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها بالتي. وقرئ: {جنات عدن}. و{جنة عدن} بالرفع على الابتداء. أي: وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة. أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. أو بتصديق الغيب والإيمان به. قيل في {مَأْتِيًّا} مفعول بمعنى فاعل. والوجه أنّ الوعد هو الجنة وهم يأتونها. أو هو من قولك: أتى إليه إحسانا، أي: كان وعده مفعولا منجزا.

. [سورة مريم: آية 62].

{لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}.
اللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه، حيث نزه اللّه عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه: {وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا} {وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} نعوذ باللّه من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا. أي: إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من وادى قوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ** بهنّ فلول من قراع الكتائب

أو لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة، على الاستثناء المنقطع.
أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة. ودار السلام: هي دار السلامة، وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
من الناس من يأكل الوجبة. ومنهم من يأكل متى وجد- وهي عادة المنهومين. ومنهم من يتغدى ويتعشى- وهي العادة الوسطى المحمودة، ولا يكون ثم ليل ولا نهار، ولكن على التقدير، ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل: أراد دوام الرزق ودروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا، يريد: الديمومة، ولا تقصد الوقتين المعلومين.

. [سورة مريم: آية 63].

{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)}.
{نُورِثُ} وقرئ: {نورّث}، استعارة، أي: نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث مال المورّث ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورّث الوارث المال من المتوفى. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.
[سورة مريم: آية 64].
{وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)}.
{وَما نَتَنَزَّلُ} حكاية قول جبريل صلوات اللّه عليه حين استبطأه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. روى أنه احتبس أربعين يوما. وقيل: خمسة عشر يوما، وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه، فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أبطأت حتى ساء ظنى واشتقت إليك. قال: إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست». وأنزل اللّه سبحانه هذه الآية وسورة الضحى. والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله:
فلست لإنسىّ ولكن لملأك ** تنزّل من جو السّماء يصوب

لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، وبمعنى التدريج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر اللّه، وعلى ما يراه صوابا وحكمة، وله ما قدامنا وَما خَلْفَنا من الجهات والأماكن وَما بَيْنَ ذلِكَ وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون، وما يحدث ويتجدد من الأحوال، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة، وأطلق لنا الإذن فيه. وقيل: ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين وهو أربعون سنة. وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غبر منها، والحال التي نحن فيها. وقيل: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، والمعنى: أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه. وقيل معنى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وما كان تاركا لك، كقوله تعالى: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى} أي: ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به. وأما احتباس الوحى فلم يكن عن ترك اللّه لك وتوديعه إياك، ولكن لتوقفه على المصلحة. وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، أي: وما ننزل الجنة إلا بأن من اللّه علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة وقال ابن كيسان: هو فعأل من الملك، فالهمزة زائدة، وعلى كل يخفف بالنقل فيقال فيه تلك. والصوب: القصد أو الميل عند النزول، ونصب ملأكا لأنه اسم لكن، وما بعده صفته، أي: ولكن ملأكا نازلا من السماء أنت. وفيه: أن المحدث عنه الممدوح لا الملك، ويمكن أنه قلب للمبالغة كما قالوه في التشبيه المقلوب. ويحتمل أن تقديره: ولكنك كنت ملأكا، وفيه بعد. والأوجه رواية الصحاح:
فلست لانسى ولكن لملأك

أي: فلست منسوبا لانسى ولكن لملك، وبالغ في ذلك حتى جعله نازلا من جهة السماء، يصوب: أى يقصد إلى جهة.
والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازى عليها، ثم قال اللّه تعالى- تقريرا لقولهم-: وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين غافلا عما يجب أن يثابوا به، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذى ملكوت السماء والأرض وما بينهما؟ ثم قال لرسوله صلى اللّه عليه وسلم: فحين عرفته على هذه الصفة، فأقبل على العمل واعبده: يثبك كما أثاب غيرك من المتقين. وقرأ الأعرج رضى اللّه عنه: {وما يتنزل}، بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحى. وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه: إلا بقول ربك. يجب أن يكون الخلاف في النسى مثله في البغي.

. [سورة مريم: آية 65].

{رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}.
{رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} بدل من ربك، ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أى هو رب السموات والأرض فَاعْبُدْهُ كقوله:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم

وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون {وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة. فإن قلت: هلا عدى اصْطَبِرْ بعلى التي هي صلته، كقوله تعالى: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْها}؟
قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أى اثبت له فيما يورد عليك من شدائد أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولا تهن، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط، وعن احتباس الوحى عليك مدة وشماتة المشركين بك. أي: لم يسم شيء باللّه قط، وكانوا يقولون لأصنامهم: آلهة، والعزى إله وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه.
وبنى (أكرومة) من الكرم للدلالة على كثرة السكرم، كما أن أعجوبة من التعجب للدلالة على كثرته، والجملة حالية، فيحتمل أنها مانعة من نكاح الفتاة، أى قالت لي ذلك، والحال أن أكرومة الحيين أى كريمة حى أبى وحى أمى خلو بالضم: خالية من الأرواح كما كانت، فهي أولى من الفتاة بالزواج لقرابتها منى. ويحتمل أنها داعية إليه، فالمعنى: قالت لي ذلك والحال أن الفتاة التي هي أكرومة الحيين، أى حى أبيها وحى أمها من خولان، على ما هي عليه من البكارة، أو من الخلو من الأزواج لم تتزوج أحدا قبلي، فهي حقيقة بأن أتزوجها لكرم طرفيها، فعلم أن الكاف بمعنى على. ويجوز أن يشبه حالها الآن بحالها فيما مضى، فالكاف على أصلها. ويحتمل أن الواو للعطف، أي: قالت ذلك، وقالت: إنها خالية لم يطمثها أحد قبلك، فهي حقيقة بالزواج لذلك، لكنه بعيد.
وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: لا يسمى أحد الرحمن غيره. ووجه آخر: هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل، لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتدّ بها كلا تسمية. وقيل:
مثلا وشبيها، أي: إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها وتكاليفها.